ديلي صباح : برهان الدين توران
شكّلت أحداث الربيع العربي مصدر طموحات لشعوب المنطقة من أجل إحداث تغيير جذري على شكل الشرق الأوسط الذي حددته الدول المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى، لكن مع تحوّل الأحداث في ليبيا وسوريا واليمن إلى حرب أهلية، حال ذلك دون إسقاط الأنظمة القائمة، ودون تشكيل نظام جديد، محولة بذلك الربيع العربي إلى خريف. خلال هذه الفترة الانتقالية، أصبحت المنطقة بأسرها تحت تأثير حروب الوكالة التي تديرها القوى صاحبة النفوذ، وكانت أكبر دمار سببته حروب الوكالة في المنطقة، هي خروج منظمات دينية متشددة. هذه الجماعات التي تستخدم الخطاب الديني التكفيري، أدت إلى تمزيق المنطقة وزيادة حدة الاستقطاب فيها.
قبل أحداث الربيع العربي كانت هذه الجماعات الدينية في المعارضة، متعرضة للاضطهاد والاستبداد من قبل الأنظمة الدكتاتورية، وعندما كانت تسعى إلى أخذ موضع أكثر تقدما في الدول، لتنشر الحرية وتنعتق من ظلم الحكّام، وجدت نفسها اليوم في صراع مع الجماعات الدينية الأخرى، وفي وسط يحكمه الفساد والإفساد. يقومون بذلك وهم يغضون الطرف عن الحقيقة التي لا تخفى على أحد، وهو أنّ أكبر المستفيدين من حروب الوكالة هي إسرائيل، وكانوا يريدون إقحام تركيا أيضا في هذه الحرب، لكن تركيا وقفت في وجه تلك المحاولات. حافظ حزب العدالة والتنمية على التوازن بين الديمقراطية والعلمانية وأصوله الإسلامية، وكان يسعى لتحقيق تعاون اقتصادي تكاملي مع دول المنطقة من أجل مستقبل مشرق لها، لكن استخدام القوى العظمى للقوة الخشنة، تسبب في تضييق الخيارات أمام السياسة الخارجية التركية.
كانت الحروب الداخلية في كل من سوريا وليبيا، وانقلاب السيسي في مصر، سببا في تدمير عمليات إنشاء تلك الدول من جديد، وهذا الوضع الجديد، أثبت أنّ القوة الناعمة لن تكون كافية لتكون قوة تحوّل تقود الشعوب إلى ما تربو إليه. لكن مع ذلك أصرت تركيا على عدم تفضيلها استخدام القوة العسكرية بصورة فاعلة في وسط هذه الصراعات الإقليمية، فلم تستخدم تركيا القوة الخشنة في ساحات هذه الصراعات إلا بصورة محدودة جدا. في نفس الوقت تمسكت تركيا بمبدأ الوقوف إلى جانب شعوب الربيع العربي، فيما كانت المشاكل الحقيقية التي تواجهها السياسة الخارجية التركية، تتمثل بالسياسة الخاصة مع كل من إيران والسعودية. تقارب رئيس الجمهورية اردوغان مع المملكة العربية السعودية، وانتقاده لمحاولة إيران بسط نفوذها وزيادة هيمنتها في المنطقة، قد تجعل البعض يصف ذلك بانضمام تركيا لمعسكر السنة.
لكن في الحقيقة أنّ هذا التقارب هو انعكاس لجهود تبذلها تركيا من أجل جلوس القوى الإقليمية على طاولة الحوار، فمن خلال ذلك من الممكن أنْ تقوم السعودية باستخدام نفوذها من أجل تغيير حجم التدخل الإماراتي والمصري في ليبيا، ومن خلال ذلك أيضا من الممكن أنْ نحدّ من حجم الصراع السعودي الإيراني في اليمن. ليس من الصواب تقييم تصريحات اردوغان خلال زيارته لطهران، بضرورة إيقاف الصراع الحاصل في اليمن، والعمل سويا من خلال المباحثات والجلوس لإيقاف نزيف الدم في المنطقة، ليس من الصواب تقييم ذلك على أنه دوران للخلف وتراجع من قبل اردوغان.
خطاب اردوغان المتعالي عن الخطاب المذهبي والطائفي خلال زيارته لإيران، هو جزء من جهود تركيا لتقديم مبدأ الحوار والتفاوض بين القوى الإقليمية، من أجل إنهاء حالة الفوضى التي تعم المنطقة.
ما أريد إيضاحه بصورة أكبر، أنّ السياسة الخارجية التركية اليوم تتجه إلى مبدأ تقديم وتفضيل لغة الحوار والتفاوض السياسي، وهذا لا يعني العودة إلى السياسة السلبية السابقة، ولا يعني الانغلاق في السياسة الخارجية من خلال الانضمام لأحد القطبين. ما يسعى إليه اردوغان، هو أنْ تعي شعوب المنطقة وشعوب العالم الإسلامي سريعا من غفلتها للخروج فورا من حلقة الصراع المذهبي والطائفي والذي لن يخدم إلا أعداء العالم الإسلامي، وذلك لأن اردوغان يدرك جيدا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة لا يوجد لها تأثير لحل هذه الأزمة التي تضرب المنطقة، وربما لا تسعى لحلها أصلا. يقول اردوغان "قد تنتمون لمذهب ما، لكن أنْ تصبح المذاهب الأخرى بالنسبة لكم عدوا، فهذا سيجعلكم تمزقون الأمة، فالعالم الإسلامي اليوم أمام خطر التمزق مجددا".
وكانت زيارة اردوغان لكل من ماليزيا واندونيسيا أيضا، كجزء لا يتجزأ من جهوده الخارجية التي تسعى إلى إنهاء عمليات تمزيق المسلمين أكثر فأكثر، وهذه الجهود ترتكز على مبدأ "تجاوز التعصب المذهبي"، وإحداث حالة من التوازن بين القيم الإسلامية والعلمانية، من أجل النهوض بواقع الأمة والحفاظ على تماسكها ووحدتها.