منذ جلاء الاستعمار عن مصر والجيش المصري لا يزال أكثر الجيوش العربية عتادا وعدة، وطوال تاريخ مصر اعتمدت البلاد على الجيش بشكل كبير لحماية أراضيها ضد إسرائيل أولا في حرب استمرت لعقود ثم أثناء النزاعان مع ليبيا والسودان على الحدود المصرية الغربية والجنوبية، لكن هذا الخطر الاعتيادي من هجوم الجيوش النظامية الأجنبية قد ضعف كثيرا خلال السنوات الأخيرة، ليحل محله مخاطر أخرى غير اعتيادية مثل حركات التمرد والإرهاب والجهات الفاعلة غير الرسمية، فالقوات المصرية النظامية الكثيرة العدد وغير المرنة تناسب مهام حماية البلاد ضد غزو المحتل، لكنها لربما لم تكن بنفس الاقتدار عند التعامل مع المشاكل الأمنية الحالية بالبلاد،
ومع استمرار إمساك الجيش بمقاليد الحكم في مصر وبينما تتزايد المطالبات لقواته بالانضمام للقوة العربية المشتركة، فإنه من غير المرجح أن يقوم القادة العسكريون بخفض الإنفاق العسكري رغم الضعف الذي يعتري الاقتصاد وازدياد مشاكل الأمن الداخلي، لذا ستسمر بمصر بالتركيز على تطوير واستدامة جيشها النظامي ليحميها من خطر العدوان الأجنبي وهو خطر كارثي لكنه أيضا غير محتمل.
تحليل:
خلال العقود الماضية كان الصراع المصري الإسرائيلي هو بؤرة الأحداث بصفته الخطر الرئيسي الذي يواجه الحكومة، لكن بمرور الوقت خفتت حدة خطر اجتياح عدو أجنبي لمصر، وإسرائيل التي تمتلك قوة عسكرية نظامية وتقع على مسافة مناسبة للضرب يستبعد أن تقوم بمهاجمة مصر في الوقت الحالي، فقد نجحت الحكومة المصرية تحت رئاسة عبد الفتاح السيسي بتملق نظيرتها الإسرائيلية حينما قامتا بالعمل سويا لاحتواء وتحجيم حماس داخل قطاع غزة،
لكن منذ بدأ الربيع العربي اضطرت مصر إلى التماشي مع مشكلة أشد وطأة ولا تلزم طورا واحدا: ألا وهي تدهور الاقتصاد إلى جانب خطر العصيان الدائم والإرهاب المنتشر في شبه جزيرة سيناء ووادي النيل والحدود الليبية، وسنركز في هذا التحليل على الخطر الأمني المباشر الذي يتمثل في الجهات الفاعلة غير الرسمية التي تعمل من خلال العصيان أو التكتيكات الإرهابية، لكن كل هذا يجب أن يفهم في سياق الرابط الهام بين حالات العصيان والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية في مصر.
وفي الوقت الراهن لا يمثل أي من التمرد الحاصل في شبه جزيرة سيناء أو النزاع الليبي خطرا يهدد وجود الدولة المصرية، بل الأمر أكبر من ذلك، فمنذ الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي واحتمالات حدوث أي تغيير حقيقي في القيادة المصرية يكاد يكون منعدما، وبينما يزداد السخط الشعبي بين أوساط ليست بالقليلة داخل المجتمع المصري بسبب الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يزداد معه احتمال-ولو ضئيل-قيام ثورة جديدة، بينما سيستمر القادة العسكريون بالتعامل مع المعارضة بتشديد القبضة الأمنية داخل البلاد،
إلا أنه يمكن القول بأن لمصر أن تعدل من نظامها الأمني ليصبح أكثر كفاءة للتعامل مع العصيان أو الإرهاب، وقد نصحت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل مصرا بنفس هذا القول، ومثل هذه الخطوة ستحتاج تركيز الجهود على قوات التدخل السريع المجهزة بأحدث أسلحة المشاة والأجهزة البصرية وأجهزة الاتصال، كما ستحتاج تلك القوات دعما مطورا فيما يخص الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وفيما يتعلق بتنقل تلك القوات فإن مصر ستحتاج عدة عوامل طيران حديثة، لكن بينما تتخذ مصر خطوات في مجال تجهيز قواتها للقيام بحملات مكافحة الإرهاب يظل اهتمامها منصبا على تقوية قدراتها القتالية النظامية،
وهذا النمط من التعامل يمكن ملاحظته خاصة في هيكلة القوات المسلحة المصرية، فبدلا من إعادة هيكلتها وتجهيزها لتناسب مهام مكافحة الإرهاب، لا يزال الجيش يحافظ على السلسلة الهرمية المركزية التي تبدأ من لواء ثمن فرقة ثم جيش أو منطقة، كما تستمر بإنفاق الأموال الطائلة على أسلحة مثل بطاريات الصواريخ من نوع أرض-جو والصواريخ المضادة للسفن والدبابات والفرقاطات البحرية، وهي أسلحة عديمة النفع إلى حد كبير في مجال مكافحة العصيان أو مكافحة الإرهاب.
العقبات التي تواجه القوة المصرية الجديدة
هناك خمسة عناصر تفسر عدم التوازن الهيكلي في وضع القوة المصرية:تحليل التهديدات العسكرية، والجمود المؤسسي، والبحث عن الهيبة، وهيكلة السلطة المركزية والمصالح الراسخة.
تحليل التهديدات
تعتبر التقديرات العسكرية من التهديدات وربما من أكبر العوامل التي تسهم في استمرار التركيز على القدرات التقليدية. مما لاشك فيه أن على القادة المصريين أن يفهموا أن التمرد والإرهاب يشكل تهديدا كبيرا وخطيرا. لكن هذا لا يعني أنهم أيضاً الأكثر خطورة. لا تزال المعارك المصرية من القرن 20، بما في ذلك حروب 1967 و 1973 مع إسرائيل، تلقي بثقلها في حسابات الجيش. على الرغم من أن نسبة احتمال شن هجوم تقليدي ضد مصر حالياً منخفضة جداً، والظروف الجيوسياسية للشرق الأوسط متقلبة ولا يستبعد قادة مصر إحتمالية شن هجوم عسكري تقليدي باعتباره تهديداً محتملاً. وبالإضافة إلى ذلك فإن أياً من السيناريوهات الأخرى التي يجب أن يخطط لها الجيش لرفع الخطر الوجودي على الدولة المصرية. إن حركات التمرد مستمرة سواء على شبه جزيرة سيناء أو عبر الحدود الليبية، لكن من غير المرجح أنها تستطيع أن تهدد سيطرة الحكومة الحالية الموجودة في السلطة. تدعو القوى العربية المتحالفة مع مصر بما في ذلك المملكة العربية السعودية بصورة متزايدة قوات الجيش المصري للحصول على المساعدة ضد حركات التمرد أو الجيوش التقليدية، لكنها لن تلعب ذلك الدور بعيداً عن الوطن. كما أنه لا بديل عن تحمل مخاطر خلع القيادة العسكرية في القاهرة.
الجمود المؤسسي
على مدى عقود عديدة تم بناء مؤسسات عسكرية مصرية قادرة على خوض حروب تقليدية على نطاق واسع.وقد تم التركيز على التعليم العسكري والتدريب على الإيدلوجية والعقيدة، وتشكيل التصورات وبالتالي بناء هيكل قوة يستطيع صناعة قادة عسكريين للحفاظ على مهارة مصر ودورها في التخطيط العسكري وخوض حرب تقليدية.
البحث عن الهيبة
يجب أن نتباهى بأكبر وأكثر جيش عربي متطور. تواصل الدولة والجيش المصري السعي إلى مزيد من اكتساب القدرات في محاولة للاحتفاظ وتعزيزهذا التصور الإيجابي.
هيكل السلطة المركزية
في الأساس، يعد الجيش المصري مؤسسة مركزية كبيرة. على الرغم من أن الأدلة التاريخية تقول أن الطبيعة المركزية المفرطة تضر ببراعة القتال، فإن الجيش غير مستعد للتحرك في اتجاه موقف قوة أكثر مرونة من شأنه أن يفسح المجال للمبادرة الفردية على مستوى الأفراد المستجدين. هذا النفور من انتشار القوة المتجذر يتركز في مخاوف القيادة من انقلاب الصفوف عليها – لأن القوات يجب أن تنحاز إلى عموم الشعب كما أنها ليست محصنة ضد موجات السخط التي تهدد بشكل دوري استقرار مصر. على الرغم من أن هذه المخاوف قد يكون لها بالفعل ما يبررها إلى حد ما، بسبب الأوضاع العسكرية من حيث – ضيق الإنضباط المركزي، وطبقات الرقابة والإشراف، وقلة المعلومات المتدفقة – قد أسفر كل هذا عن وجود منظمة بطيئة الحركة ولديها صعوبة في مواجهة أي أطراف أو جهات غير حكومية تتمتع بالمرونة تهدد أمن واستقرار البلاد.
المصالح الراسخة
تخلق مصالح الضباط والأفراد المجندين داخل هيكل القوة العسكرية الحالية ضغطاً إضافياً على القادة المصريين من أجل الحفاظ على الوضع الراهن. على سبيل المثال، فإن التحول نحو قوة أكثر قدرة على مكافحة التمرد تساعد على تمكين ضباط الصف وقوات العمليات الخاصة على حساب القيادة التقليدية. كما أنه يؤدي أيضا إلى إغلاق العديد من المقرات والمحطات، وكذلك القضاء على أي منصب مسؤول متعلق بهم. كذلكأيضا، هناك مئات الآلاف من المشاة المدربين بشكل سئ غير صالحين لحملات مكافحة التمرد.
التحديات الجغرافية المصرية
نتوقع المزيدمن نفس الشئ
نظرا للدوافه القوية وراء التزام مصر بمواصلة هيكلة القوة التقليدية، فإننا يمكن أن نتوقع بسهولة أن الجيش المصري سيظل يواجه صعوبة في ملاحقة حملات التمرد على مدى السنوات القليلة المقبلة. إن هيكلة القوة المعقدة بالإضافة إلى الفشل في تمكين القيادة لخلق مبادرات مع الرتب الأدنى منهم، ستقف في طريق أي جهود ناجحة لمكافحة التمرد. (على سبيل المثال قوضت استراتيجية مصر لتطوير التغلغل على شبه جزيرة سيناء عبر البدو المحليين من خلال نهج السياسة العسكرية المتشددة والتي دفعت السكان المحليين لإنقلاب على الدولة.)
يجب على الجيش أيضا أن يتعامل مع آثار التحركات الأخيرة بعيدا عن المصادر الأمريكية من المعدات العسكرية. في أعقاب الربيع العربي، وقعت مصر علىأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت شريكاً لا يمكن الاعتماد عليه، كما بدأت في شراء أسلحة من روسيا وفرنسا والصين. تعتقد مصر أن هذه الدول سوف تكون أقل عرضة للسماح للسياسة بأن تدخل في مبيعات الأسلحة.
على الرغم من الجهود التي تبذلها مصر لتنويع امداداتها من الأسلحة يجب زيادة القة وروح التنافس في الصفقات التي تلقتها، حيث كان هناك العديد من السلبيات. فقد تكيف الجيش المصري على استخدام الأسلحة الأمريكية إلى حد كبير كمنصة أساسية، والإنتقال إلى منصات أخرى سيصنع تعقيدات في التدريب العسكري والدعم اللوجستي وسيتطلب فترة من الزمن حتى تستطيع القوات التآلف مع الترسانة الجديدة.
بالرغم من كل نقاط الضعف الموجودة، إلا أن الجيش المصري لا يزال محتفظاً بكونه قوة معتبرة في الحرب التقليدية. كما أن الجيش مجهز بشكل جيد في بعض النواحي والتي لا يمكن إنكارها، ومدربة تدريبا جيدا للمعارك التقليدية، وقد استفادت بشكل كبير من صفقات الأسلحة الحديثة والمتطورة والتدريب عليها مع الجيوش الأجنبية المتطورة، مثل الولابات المتحدة الأمريكية. وبالتالي، فإن مصر لا تزال في وضع يمكنها من الدفاع عن نفسها ضد الجيوش التقليدية التي تعاني من الضعف في الثقافة العسكرية، مثل القوات الليبية والسودانية. ومع ذلك فإنه سيكون في وضع صعب للغاية إذا وجه سرعة ومرونة القوت الإسرائيلية.
مكانة مصر في المنطقة
من منظور قوة الحجم والقدرة وحدهما سيبقى وضع الجيش المصري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دون تغيير إلى حد كبير. لم تقم مصر بصفقات الأسلحة والتي صنعت تغيير في قدرتها لإظهار القوة، كما أنها لم تتمكن من تنفيذ عمليات الهبوط البرمائية.وتواصل قواتها البحرية على أن تحصر في المياه الساحلية، بالإضافة إلى أن إستراتيجية قدرتها على النقل الجوي شبه معدومة. في حين أن مصر تستطيع الحفاظ على تنفيذ عمليات داخل وعبر الحدود المباشرة مع ليبيا والسودان، ونظرياً ضد إسرائيل، لم تقم مصر باستثمار وتدريب قواتها على شن هجمات مستمرة متجاوزة حدودها.
لقد بدأ يتردد أن التقييم المذكور سابقاً يهدف إلى معركة بيئية غير مقبولة. وفي حالة وجود البيئة المناسبة وقيام الدول المتحالفة بمنح مصر حق الوصول إلى الموانئ والمطارات والطرق السريعة والنقل الجوي تستطيع مصر نشر وتوزيع القوات المصرية خارج المنطقة، مع إمكانية وجود قوة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط. ونظرا للعلاقات المتنامية بين مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، فضلاً عن الضغط من أجل إنشاء قوة عربية مشتركة، قد أصبح ممكنا بشكل كبير. من خلال الدعم اللوجستي والسياسي الكافي، يمكن للقوات المصرية أن تلعب دوراً هاماً في حملة عسكرية عبر المنطقة.