مستقبل الأعمال الكبيرة في مصر الجديدة

مستقبل الأعمال الكبيرة في مصر الجديدة

آي إس إن – عمرو عدلي - 2 ديسمبر 2014

 

ترجمة خاصة بمركز الديوان

قدم رأس المال الكبير في مصر دعماً مبكراً وقوياً للنظام السياسي الجديد المدعوم من الجيش، والذي تولى السلطة في يونيو 2014. لكن على الرغم من هذا التأييد، أدخل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي تغييرات باتت تشكّل ضغطاً على القطاع الخاص بشكل عام، وعلى رأس المال الكبير بشكل خاص. ومع ذلك، ثمة بعض المؤشرات على أن تلك التحوّلات مؤقتة، وأنها اتُّخِذَت بدافع الضرورة من باب محاولة القيادة السياسية الجديدة إصلاح الاقتصاد المأزوم كجزء من جهودها للوصول إلى استقرار الوضع السياسي. وفي حين أن هناك احتمالا لإعادة تشكيل ملامح العلاقة بين الدولة والاقتصاد، فإن رأس المال الكبير يبقى عنصراً ضرورياً للتعافي الاقتصادي في مصر على المدى الطويل.

 

الضغط على رأس المال الكبير

  • تمتع رأس المال الكبير في مصر بعقود من الإعفاءات الضريبية والدعم والحوافز الأخرى، واستأثر بحصة كبيرة من الإنتاج والتوظيف والاستثمار والصادرات في البلاد.
  • وسّع الجيش المصري من دوره الاقتصادي منذ يوليو 2013. وبدفعٍ من الإنفاق التحفيزي من جانب الدولة ورؤوس الأموال المقدمة من دول الخليج، تمكن الجيش من دخول قطاعات اقتصادية جديدة، ومن الاستحواذ على مشروعات اقتصادية كبيرة، كما تمكّن من اقتحام مجالات طالما امتازت بحضور رأس المال الكبير.
  • قد تشهد شبكات المحسوبية التي ربطت رأس المال الكبير بالدولة في عهد حسني مبارك إعادة تشكيل، إذ أن بعضاً من أعضاء هذه الشبكات، الذين لعبوا دوراً رئيساً في عهد مبارك، لايزالون إما في السجن أو في المنفى أو مطلقي السراح على ذمة قضايا مالية وجنائية؛ وقد يظهر لاعبون جدد يستغلون علاقاتهم للحصول على معاملة تفضيلية من الدولة.
  • يواجه رأس المال الكبير ضرائب جديدة وخفضاً في الدعم الحكومي، في الوقت الذي تحاول الدولة معالجة أزمتها المالية. وبالتزامن مع هذه التغيرات، دعى أصحاب رأس المال الكبير إلى التبرع بالأموال لصالح صناديق دعم الاقتصاد الوطني.

دور طويل الأجل لرأس المال الكبير

يتحكّم رأس المال الكبير بالعديد من الصناعات الأساسية التي تعتبر مفتاح أي عملية تعافي اقتصادي. وعلى الرغم من أنه قد يكون صحيحا أن الجيش قد يحل محلّ رأس المال الكبير على المدى القريب، إلا أن تحقيق الاستقرار على الأمد الطويل يتوقّف على استئناف الأنشطة التي تقوم بها الشركات الخاصة الكبرى. ولاتزال هذه الأخيرة تسيطر على قطاعات مهمة من الاقتصاد، بما في ذلك الصناعات التحويلية والسياحة والاتصالات والتجارة والإسكان، وهي القطاعات التي لاغنى عنها لأي انتعاش في مجال الاستثمار أو التوظيف.

ويُضاف إلى ماسبق أن استعادة الاقتصاد المصري القدرة على جذب رأس المال الأجنبي في المدى البعيد سيعتمد على إحياء القنوات والشبكات التي يتحكّم بها القطاع الخاص،  وذلك لأن المستثمرين الأجانب لن يفضلوا في نهاية المطاف العمل من خلال الجيش، بل من خلال شركاء من القطاع الخاص، كما فعلوا في الماضي القريب.

قد تتغير طبيعة التفاعل بين الدولة ورأس المال الكبير. فدخول الجيش إلى قطاعات جديدة يمكن أن يؤدي إلى إعادة رسم خطوط التفاعل بين الجيش والرأسمالية الكبيرة، ولاسيما في حقول مثل البناء والتشييد والبنية الأساسية والنفاذ إلى الأراضي. وبما أن رأس المال الكبير يجد نفسه في مواجهة فواتير ضريبية أعلى وخفض للدعم، قد يضطر الى تقليل الاعتماد على الحكومة في المستقبل، بما يعنيه هذا من تحقيق مساحة أكبر من الاستقلال لرأس المال في مواجهة الدولة.

 

مقدمة

أيّد الكثير من كبار رجال الأعمال في مصر سيطرة الجيش على مقاليد الحكم في البلاد في يوليو 2013. وفي السنة التالية، دعم أغلبهم ترشح المشير عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع السابق والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، لمنصب الرئاسة. لكن على الرغم من هذا الدعم المبكر والقوي للنظام الحالي، يجد الآن رأس المال الكبير نفسه عرضة إلى الضغط من جانب الدولة على غير صعيد.

عملياً، استُبعِدَ رأس المال الكبير من خطط التحفيز مابعد يوليو 2013، والتي تهدف إلى تحريك عجلة الاقتصاد المصري بعد سنوات من الركود. وفي المقابل، من المنتظر أن تمر معظم رؤوس الأموال التي قدمتها وتقدمها دول الخليج إلى مصر، والتي تغذي محاولات إنعاش الاقتصاد، من خلال الدولة والمؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش بصورة أساسية، والتي يتوسع دورها الاقتصادي بسرعة كبير وعلى نحو غير مسبوق.

وفي الوقت نفسه، بدأ رأس المال الكبير في فقدان العديد من الامتيازات المالية التي ظل يتمتّع بها لسنوات في عهد مبارك. وثمّة دلائل تشير إلى أنه قد يُعاد تشكيل شبكات المحسوبية القديمة الموروثة من الرئيس الأسبق حسني مبارك، لصالح جهات فاعلة جديدة على حساب أصدقاء النظام القديم. علاوة على ماسبق، شملت التحركات الأخيرة لفرض التقشّف وتحسين الموارد المالية المتضائلة في مصر، خفض دعم الطاقة وفرض ضرائب جديدة على القطاع الخاص، وذلك باستهداف الشركات الكبرى المدرجة في سوق الأسهم، من خلال فرض ضرائب جديدة على الأرباح الرأسمالية. كما فرضت الدولة ضريبة مؤقّتة على الدخول التي تتجاوز مليون جنيه مصري (حوالى 140 ألف دولار أميركي). ومن المتوقع أيضا أن تشهد الشهور المقبلة فرض زيادات ضريبية إضافية. وقد طالب السيسي ممثلي رأس المال الكبير بتحمّل نصيبهم من العبء عبر المساهمة في التنمية الوطنية والمشروعات الاجتماعية.

ومع ذلك، ثمة القليل من الأدلة على أن هذه التحولات، بما فيها التوسّع الاقتصادي للجيش، تعني إلغاء الدور المتنامي للقطاع الخاص في مصر على المدى البعيد. بل خلافاً لهذا، ثمة دلائل على أن التحولات ستكون مؤقتة، وأنها أتت بدافع الضرورة ولم تكن مخططة مسبقا، الأمر الذي يجعل لرأس المال الكبير دوراً مهماً يؤديه في الاقتصاد المصري في المستقبل.

يعتمد التعافي الاقتصادي والاستقرار طويل الأمد بدرجة كبيرة على استئناف أنشطة رأس المال الكبير، الذي لايزال يسيطر على قطاعات أساسية في الاقتصاد المصري، بما فيها الصناعات التحويلية والسياحة والاتصالات والتجارة والإسكان. وتعتبر هذه القطاعات أساسية على صعيد جذب الاستثمارات وخلق فرص العمل التي يحتاج إليها الاقتصاد المصري لكي يتعافى. علاوة على ذلك، فإنه من المستبعد أن يحافظ الجيش على دوره باعتباره المتلقّي الرئيس لرأس المال الأجنبي. ففي السياق السياسي الحالي تبدو الحكومات الخليجية، التي تعتبر الجهات المانحة الرئيسة لمصر، أكثر ارتياحاً إزاء الاستثمار عن طريق الجيش الذي يعمل كطرف ضامن نوعاً ما. لكن من المرجح أن يفضل المستثمرون الأجانب، الذين تبدو الحاجة ماسة إلى رؤوس أموالهم لتحقيق أي قدر من الانتعاش على المدى الطويل، العمل من خلال القطاع الخاص كما فعلوا في الماضي.

 

رأس المال الكبير في مصر

شهدت مصر موجات متتالية من التحرير الاقتصادي ورفع القيود التنظيمية والخصخصة منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي. وقد أدت هذه التحوّلات إلى ظهور فئة ضخمة من الشركات الوطنية الكبرى، التي أضحت تستأثر بحصة كبيرة من الإنتاج والتوظيف والاستثمار ودفع الضرائب والقروض المصرفية والصادرات. وبحلول عقد التسعينيات في مصر، أصبحت قلة من رجال الأعمال والعائلات تسيطر على الصناعات الرئيسة، وتراكم الثروة ورأس المال، وتمتلك حصصاً كبيرة من الناتج الإجمالي للقطاع الخاص والتوظيف والاستثمار.

حصلت الشركات المصرية الكبرى على مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الحوافز والتسهيلات في النفاذ إلى الموارد الاقتصادية في العقود الماضية، وذلك في إطار تشجيع الاستثمار ودعم تنمية القطاع الخاص. وتمتّعت هذه الشركات الكبرى بإعفاءات ضريبية، وحصلت على إعانات سخية في مجالات الطاقة والتصدير والنفاذ إلى الأراضي، ولاسيّما منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي. ووفقاً لبعض التقديرات (في العام 2007)، حصل 45 مصنعاً على نسبة تصل إلى 65 في المئة من إجمالي دعم الطاقة المخصص لقطاع الصناعة، علماً أن دعم الطاقة يشكل حوالى 25 في المئة من إجمالي دعم الطاقة.  ووفقاً للبيانات الصادرة عن وزارة المالية، فقد بلغ متوسط المساهمات الضريبة للشركات الخاصة نسبة متواضعة تصل إلى 6 في المئة من إيرادات الدولة في الفترة من 2008 إلى 2012. وقد مثل هذا المبلغ نحو ثلث حصيلة ضريبة الدخل على الشركات.

ونظراً إلى كون الغالبية العظمى من الشركات المصرية الكبرى غير مدرجة للتداول في سوق الأوراق المالية، فإن المعلومات عن مبيعاتها السنوية وإنتاجها وأرباحها ليست متاحة بسهولة. وبالتالي من الصعب تقدير الوزن النسبي للشركات الكبرى في الاقتصاد المصري على نحو دقيق، خاصة أن المسح الاقتصادي الذي قام به مؤخراً الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الهيئة الرسمية للإحصاء في مصر، يعتبر سرياً لأسباب تتعلّق بالأمن القومي. وعليه، لاتتضمن المعلومات الصادرة عن السلطات أي مؤشرات على الأهمية النسبية لرؤوس الأموال الكبيرة.

بيد أن المؤشرات الإجمالية تعطي لمحة عن الوزن النسبي لرأس المال الكبير. في مارس 2014، على سبيل المثال، تألّفت قائمة مجلة "فوربس" لأغنى خمسة أشخاص في البلاد من أفراد عائلتين اثنتين فقط. وبثروتهم الإجمالية البالغة 17 مليار دولار أميركي (مايعادل 6.25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، في العام 2013)، يتولّى الإخوان ساويرس ومنصور إدارة تكتّل عائلي يعمل في قطاعات متنوّعة.  

عدا الأرصدة التي يمتلكها أغنى الأفراد في البلاد، يتميّز القطاع الخاص في مصر بوجود الشركات الكبرى التي تمارس تأثيراً كبيراً على الاقتصاد. وتبدو الشركات الكبرى المملوكة للقطاع الخاص ظاهرة للعيان في قطاعات رئيسة، مثل الاتصالات والحديد والصلب والإسمنت والأسمدة وتجارة التجزئة والسياحة، من بين قطاعات أخرى.

وفي مصر، كما في أماكن أخرى من العالم، لايقتصر نشاط الشركات الكبرى على المجال الاقتصادي وحسب، إذ يمكن أن يتخذ نشاطها أيضاً أشكالاً اجتماعية، مثل الشركات العائلية القابضة، فضلاً عن شبكات النخبة الكثيفة القائمة على الصداقة والقرابة والخلفيات التعليمية والمهنية المشتركة. كما يمكن أن تكون الشركات الكبرى جهات سياسية فاعلة، إما بصورة رسمية من خلال المساهمة في الحملات الانتخابية، وتمويل الأحزاب السياسية، وامتلاك وسائل الإعلام، وتأسيس جمعيات رجال الأعمال أو الانضمام إليها، أو بصورة غير رسمية من خلال الصلات الشخصية المباشرة مع كبار المسؤولين والسياسيين.

وفي مصر، شكل العديد من أصحاب الشركات الكبرى والتكتلات والعائلات، بصورة رسمية وغير رسمية، جزءاً لايتجزأ من نظام مبارك السياسي، خاصة قرب نهاية فترة حكمه التي امتدت ثلاثين عاماً. وقد اتسم هذا النظام الرأسمالي القائم على المحسوبية بالتوزيع المتفاوت لحقوق الملكية لصالح قلة تتمتع بارتباطات وعلاقات سياسية مع دوائر النفوذ. وفي مثل هذه البيئة، تمكن العديد من أصحاب الشركات الكبرى والعائلات من النفاذ إلى الأسواق، والأصول الحكومية التي تمت خصخصتها، والأراضي المملوكة للدولة والقروض المصرفية، وحتى تطبيق القواعد واللوائح، على حساب القاعدة الأوسع من المستهلكين والشركات التي لاتفتقد إلى الروابط السياسية، بل وأحياناً على حساب الموازنة العامة للدولة.

وفي السنوات التي سبقت ثورة يناير 2011، كان الكثير من المصريين ينظرون إلى رأس المال الكبير باعتباره مثالاً لزواج غير شرعي بين السلطة والثروة، وبين السياسة والاقتصاد. وجرى تمثيل أصحاب رأس المال الكبير بصورة متزايدة في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، وفي مجلس الشعب ومجلس الوزراء. وهكذا، اعتبرت ثروات كبار رجال الأعمال مرتبطة بصورة وثيقة بسياسات الدولة، وكذلك بعلاقاتهم المعقّدة وغير الرسمية مع السياسيين والبيروقراطيين ذوي المناصب الرفيعة والأجهزة الأمنية.

لم ينته هذا الإرث المشكل لرأس المال الكبير مع إطاحة مبارك. فقد لعب رأس المال الكبير دوراً في المراحل الانتقالية العديدة التي شهدتها مصر منذ العام 2011. وقد نُظِر إليه على أنه أدى دوراً رئيساً في إطاحة الرئيس الأسبق محمد مرسي، الرئيس المدعوم من جماعة الإخوان المسلمين، في العام 2013، عبر الاضطلاع بدور غير مباشر عن طريق الامتناع عن الاستثمار في الاقتصاد بعد تسلم مرسي السلطة. في المقابل، كان دور بعضه الآخر أكثر صراحة، وذلك في استخدام وسائل الإعلام التي يملكها ويسيطر عليها ضد نظام جماعة الإخوان. وخلال فترة حكمهم القصيرة، فشل الإخوان في التأسيس لطبقتهم الخاصة من رجال الأعمال، كما فشلوا في إقامة علاقات سلسلة مع رأس المال الكبير القائم.

بيد أنه من الملاحظ كذلك أن القطاع الخاص، ولاسيما رأس المال الكبير منه، كان غائباً بصفة عامة عن الاقتصاد طوال الفترة التالية للثورة. فمنذ يناير 2011، سحبت شركات القطاع الخاص أموالها وجمدت استثماراتها، ولم تستجِب على مايبدو لما عرضته الأنظمة والحكومات المتعاقبة من ضمانات وحوافز في مرحلة مابعد الثورة، في محاولة لتطمين القطاع الخاص بغية استئناف نشاطه الاقتصادي، ومن ثم تحقيق التعافي بعد الثورة. وثمة بالطبع تفسيرات عدة لمثل هذا السلوك، إذ أنه قد يكون رد فعل طبيعياً للقطاع الخاص، بما في ذلك رأس المال الكبير، على الاضطراب السياسي المستمر وعدم التيّقن من طبيعة السياسات العامة. وقد يكون أيضاً جزءاً من استراتيجية مقصودة للضغط على حكومات مابعد الثورة لضمان عدم اتخاذ إجراءات ضد الشركات المحسوبة على نظام مبارك.

 

ضغوط على جبهات عدّة

يمتلك النظام الجديد المدعوم من الجيش العديد من الدوافع والمبررات لإعادة هيكلة العلاقات مع رأس المال الكبير. فمن ناحية، يحدد علاقة النظام الجديد بالاقتصاد ككل، هادفاً بشكل رئيس إلى إضفاء الشرعية على حكمه وتثبيته. ومن ناحية أخرى، لايمكن تجاهل الحشد الشعبي الضخم الذي جاء به إلى السلطة في المقام الأول. وبالتالي، هذه كلها مبرّرات سياسية وجيهة لعدم استنساخ الوضع الذي كان سائداً بين الدولة ورأس المال الكبير في عهد مبارك.

قد يكون من السابق لأوانه القول إن التحركات الأخيرة التي قامت بها الحكومة وخططها المستقبلية قد أضرت برأس المال الكبير. ومع ذلك، ثمة دلائل لالبس فيها تشير إلى أن التغييرات القانونية والاقتصادية تمثل ضغطاً على رأس المال الكبير على ثلاث جبهات هي: الدور الموسع الذي يقوم به الجيش، وإعادة ترتيب علاقات الدولة وقطاع الأعمال، والأعباء المالية الجديدة على القطاع الخاص.

 

توسيع دور الجيش

لعب الجيش المصري دوراً اقتصادياً نشطاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبدأ يؤدي دوراً أكبر في الاقتصاد في سياق الأزمة المالية التي واجهتها الدولة في ذلك الحين. وقد جرى تخفيض المخصصات العامة للقوات المسلحة تدريجياً، ولاسيما بعد اتفاقية السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل في العام 1979. وفي المقابل، منح الجيش الفرصة لتطوير اقتصاده الخاص وتشغيله للمساعدة في تخفيف العبء على الدولة.

منذ ذلك الحين، بنى الجيش قاعدة واسعة من الصناعات والأنشطة التي تستخدم في إنتاج مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك الأسلحة والسلع المعمرة والغذاء والمياه المعدنية. إضافة إلى ذلك، نشط جهاز خدمة المشروعات الوطنية التابع للجيش في مشاريع البنى التحتية المدنية، ولاسيما الطرق السريعة والطرق والجسور والأنفاق.

ففي خلال الأشهر الأخيرة، ترجمَت السيطرة السياسية الجديدة للجيش إلى توسع اقتصادي غير مسبوق. إذ تنشط الشركات والهيئات التابعة للجيش في مجالات طالما كانت معاقل تقليدية لرأس المال الخاص، مثل البناء والإسكان والبنية التحتية والتنمية الحضرية، فضلاً عن تحديث القطاع الصحي. وبالنسبة إلى الكثيرين داخل مجتمع رأس المال الكبير، فإن ثمة مخاوف مبرّرة من أن الجيش يحجب القطاع الخاص عن فرص الانتعاش الاقتصادي المأمول في مصر، باعتباره المستفيد الرئيس من الإنفاق التحفيزي للدولة. فقد استبعدت الشركات الكبرى الخاصة من الأنشطة الاقتصادية المهمة، ومن تدفّقات رؤوس الأموال الضخمة المخطط لها، والتي تهدف إلى قيادة الاقتصاد المصري نحو التعافي وزيادة الاستثمار والتوظيف.

ويبدو حضور وحجم المشروعات الخاصة بالجيش، منذ يونيو 2013، استثنائياً مقارنة بالفترات السابقة. ومن الجدير بالذكر أن معظم هذه المشروعات حكومية ويتم تمويلها من الدولة مباشرة أو من بعض دائنيها من دول الخليج ومن الجهات المانحة. والواقع أن الجيش قد برز كشريك رئيس لرأس المال الأجنبي. ومن الأمثلة على ذلك أن شركة "أرابتك"، وهي شركة إنشاءات مقرّها في دولة الإمارات العربية المتحدة، أعلنت عن خطط للعمل مع الجيش لبناء مليون وحدة سكنية لذوي الدخل المحدود في مصر. في هذه الحالة، تواصلت الشركة الإماراتية مع الجيش مباشرة وجعلته شريكاً كاملاً في المشروع. وقد جرى تكليف الجيش بتوفير الأرض التي ستبنى عليها الشقق.  وذلك على الرغم من عدم وضوح وضع المشروع حاليا مع خفوت التغطية الإعلامية، وتوقف الكلام عنه بدرجة كبيرة.

وفقاً لتقديرات أحد الصحافيين الاقتصاديين، خصّصت الحكومة المؤقتة التي كان يقودها حازم الببلاوي، خلال الأشهر العشرة التي تلت إطاحة محمد مرسي، مشروعات تبلغ قيمتها حوالى 5.5 مليار جنيه مصري (حوالى 770 مليون دولار أميركي) للجيش ومؤسساته والشركات التابعة له. ويشمل هذا المبلغ المشروعات الكبيرة التي أعلنت عنها مصادر رسمية، إلى جانب مشروعات أخرى ورد ذكرها في مصادر صحفية. غير أن هذه التقديرات ليست نهائية ولاحصرية، إذ أنها لاتشمل، على سبيل المثال، مشروع قناة السويس الجديدة الضخم، والذي قدرت تكلفته بحوالى 8 مليارات دولار في السنوات الثلاث المقبلة. ( يتوقع أن يلعب الجيش دوراً رئيساً في تنفيذ المشروع والإشراف عليه، على الرغم من أن تفاصيل دوره ليست واضحة بعد). واستناداً إلى تلك التقديرات، فإن إجمالي قيمة المشروعات المعلن عنها، والتي تم إسنادها للجيش بشكل أو بآخر، تناهز نحو 10 في المئة من إجمالي الموازنة الاستثمارية للدولة للسنة المالية 2014-2015. (علماً أن الكثير من المشروعات المسندة إلى القوات المسلحة لايجري تمويلها مباشرة من ميزانية الدولة. ومع ذلك، إن النظر إلى توزيع الاستثمارات الحكومية باعتباره أساساً مرجعياً، يساعد على فهم السياق الذي تم فيه ذلك.)

 وتبرز من بين الأعمال المسندة إلى الجيش مشروعات عدة، مثل مشروع صيانة 27 جسراً ونفقاً بقيمة 4.5 مليار جنيه (625 مليون دولار)، كُلِّفَت بتنفيذه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وأُعلِن عنه بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في نوفمبر 2013؛ ومشروع تطوير 30 منطقة عشوائية في القاهرة والجيزة (350 مليون جنيه، أي مايعادل 49 مليون دولار)؛ ومشروع بناء مجمع للخدمات الحكومية في محافظة الغربية في دلتا النيل (240 مليون جنيه، أي مايعادل 34 مليون دولار)؛ ومشروع بناء جسرين في محافظة القليوبية (80 مليون جنيه، أي مايعادل 11 مليون دولار). كما مُنِح الجيش امتياز تحصيل الإيرادات على بعض الطرق السريعة الرئيسة، بما في ذلك جزء من الطريق الدائري حول القاهرة، لمدة تسعة وتسعين عاماً، وطريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي، الأكثر ازدحاماً في مصر، لمدة خمسين عاماً. ووفقاً للتقرير نفسه، صرّح وزير الصحة، في مارس 2014، أن الجيش سيتولّى تطوير 40 مستشفى عاماً.

يأتي النشاط الاقتصادي الموسع للجيش بالتوازي مع تعديلات في قانون المشتريات الحكومية، بما يسمح لكبار المسؤولين بالقيام بعمليات الشراء وإسناد الدراسات الاستشارية والفنية والبناء بالأمر المباشر، بدلاً من العطاءات التنافسية، مايجعل من السهل توجيه الإنفاق التحفيزي الحكومي للجيش؛ هذا من الناحية النظرية على الأقل. وبالتالي، يمكن أن يكون قانون العطاءات أداة اقتصادية فعّالة عندما يجري صرف الأموال العامة على المشروعات الاقتصادية عن طريق التعاقد مع الشركات الخاصة أو الحكومية.

وفي خضم هذا التوسع الاقتصادي، قد تظهر ملامح مزاحمة الجيش لرأس المال الكبير، ولكن لايبدو أن هذه المزاحمة تنطبق على كل القطاع الخاص بمختلف شرائحه وأحجامه. فثمة دلالات على مشاركة شركات صغيرة ومتوسطة الحجم من القطاع الخاص في تنفيذ مشروعات البنى الأساسية المسندة إلى الجيش من خلال التعاقد من الباطن. وتعتبر هذه العلاقات مهمة لخلق فرص العمل، ولضمان تدفّق حزم التحفيز الاقتصادي إلى القاعدة الأوسع من الاقتصاد المصري.

ثمّة أدلّة على أنه يجري استنساخ هذا النمط اليوم، حيث يتعاقد الجيش من الباطن مع الشركات الصغيرة والمتوسطة لتنفيذ بعض مشروعاته الجديدة في مجال الأشغال العامة. فعلى سبيل المثال، يضطلع ائتلاف من الشركات المصرية المملوكة للقطاع الخاص بتنفيذ مشروع حفر قناة السويس. وقد يكون هذا نابعاً من عدم قدرة الجيش على الاضطلاع بشكل مباشر بتنفيذ مختلف المشروعات المسندة إليه. كما قد يكون ناتجاً عن خطة متعمّدة لإشراك قاعدة واسعة من الشركاء بغية خلق فرص عمل في مختلف قطاعات الاقتصاد. وفي كلا الحالتين، لايتوقّع أن تستفيد الشركات الكبرى من هذه الترتيبات بخلاف الشركات الأصغر حجماً.

يتوافق الدور الذي يؤدّيه الجيش حالياً مع بيئة سياسية اقتصادية استثنائية متصلة بالاضطرابات التالية للثورة، والعجز عن تثبيت مسار واضح يوصل إلى الاستقرار السياسي. وثمة دلائل كثيرة على أن توسّع دور الجيش الاقتصادي أتى بدافع الضرورة، مع ضعف استجابة القطاع الخاص عامّة وانحسار نشاطه الاقتصادي، وليس مبنيّاً على مخطّط مسبق، علماً أنه من الصعب تصوّر أن يستمر هذا الوضع طويلاً. وبناءً على ماسبق، مامن دليل قاطع على أن ضلوع الجيش في الأنشطة الاقتصادية مؤخراً يعني تراجعاً عاماً عن خطى تحرير الاقتصاد في مصر، ومن ثم الارتداد إلى نمط ما من سيطرة الدولة على الاقتصاد.

كانت السنوات الثلاث التي أعقبت إطاحة مبارك شديدة الاضطراب، ولم تسفر الخطوات المتعاقبة لنقل السلطة عن تحقيق استقرار فوري. وفي ذلك السياق، قامت البيروقراطية المدنية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية (بصفتها السلطة التشريعية في معظم الوقت) بإصدار وتنفيذ وتطبيق قواعد وأحكام متناقضة تزيد من ارتباك المستثمرين، وخاصة رأس المال الكبير، مازاد من حجم المخاطر التي تواجههم، وأسهَمَ في تثبيط الهمم عن استئناف النشاط الاقتصادي.

ونظراً إلى المستويات العالية من عدم اليقين وعدم الاستقرار، التي يُحتمَل أن تواجه أي مستثمر أجنبي أو محلّي في بيئة مابعد الثورة، وفي ظل عدم مشاركة القطاع الخاص المصري في الاقتصاد بصورة فعّالة، يبدو أن المشاركة المباشرة لبيروقراطية الجيش تمثّل خطوة ضرورية على المدى القصير لتوفير الثقة إلى المستثمرين من دول الخليج، وإعطاء دفعة أولية للاقتصاد المتعثّر. وبما أن الجيش هو المؤسسة التي تضطلع بأعباء إعادة تأسيس سلطة الدولة، فإنه الأحرص على استئناف النمو الاقتصادي كجزء من تحقيق الاستقرار السياسي. ومن هنا يمكن فهم تصدّي الجيش إلى دور مباشر لتنفيذ مشروعات اقتصادية بهدف الإسراع بالتعافي بالشراكة المباشرة مع داعمي المسار السياسي الحالي من بلدان الخليج العربي.

ومع ذلك، من غير المحتمل أن يستمرّ هذا الوضع على المدى البعيد، إذ تتوقّف الخطط طويلة الأجل للانتعاش الاقتصادي في مصر على جذب رأس المال الأجنبي والاستثمار الأجنبي المباشر بصورة رئيسة. وهي تعتمد بصورة كبيرة على شبكات يتحكم بها القطاع الخاص، وخاصة رأس المال الكبير، والذي لا يزال يسيطر على قطاعات رئيسة في الاقتصاد تتراوح بين الخدمات المالية والصناعات التحويلية والسياحة والاتصالات والتجارة والإسكان، والتي يستحيل من دونها تصوّر حدوث أي انتعاش في الاستثمار أو التوظيف.

علاوة على ذلك، لايمكن أن يصبح الجيش شريكاً دائماً لرأس المال الأجنبي. فقد كانت الجهات المانحة الخليجية التي دخلت في شراكة مع الجيش مؤخراً مدفوعة أصلاً بأهداف سياسية، لابأهداف استثمارية بحتة، وهو مالن يتوفر لدى المستثمرين الأجانب فيما بعد، والذين تبدو الحاجة إليهم ماسّة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي في المدى المتوسط إلى الطويل. وعند توقّف تدفّق المساعدات الخليجية المباشرة إلى خزينة الدولة، من المرجّح أن تمرّ الاستثمارات الأجنبية المباشرة عبر القطاع الخاص مرة أخرى.

ويُضاف إلى ماسبق أنه من المستبعد أن يؤدي توسّع الجيش الاقتصادي إلى إقصاء رأس المال الكبير بصورة دائمة. فقد حافظ الجيش منذ فترة طويلة على دور اقتصادي فاعل منذ التسعينيات في بعض القطاعات الرئيسة، جنباً إلى جنب مع رأس المال الكبير. وبطبيعة الحال، فقد كانت علاقة الطرفين مشوبة بالتوتّر في بعض الأحيان، خصوصاً في القطاعات التي قد يتنافسان فيها. ومع ذلك، كانت هناك شراكات وأشكال أخرى من التعاون أو التعايش على الأقلّ بين الطرفين أيضاً في أحيان أخرى.

وخلاصة المقال أن الهيمنة الحالية والتوسع الاقتصادي للجيش قد يؤديان إلى إعادة رسم خطوط التفاعل بين الجيش ورأس المال الكبير لا أكثر، وخاصة في مجالات مثل مشروعات البناء والنفاذ إلى الأراضي. لكن من غير المرجح أن يؤدّي ذلك إلى إبعاد رأس المال الكبير أو الاستعاضة عنه بالجيش في المديَين المتوسط والطويل.

 

إعادة تشكيل شبكات المحسوبية

ففي ظل المناخ الحالي، تبدو إعادة المقرّبين في عهد مبارك إلى الوضع المتميّز الذي كانوا يتمتّعون به، أمراً بعيد المنال وربما مستحيلاً. ذلك أن العديد من المراكز الأساسية في الشبكات القديمة لم تستعد توازنها منذ ثورة يناير 2011 وجرّاء تداعياتها. أما أولئك الذين كانوا الأقرب إلى مبارك، والأقوى في ذلك الوقت، فلايزالون مسجونين أو منفيّين أو يعانون من مصادرة أو تجميد ممتلكاتهم، أو لايزالون مطلقي السراح على ذمة قضايا منظورة أمام القضاء. وتشمل الأمثلة على ذلك: أحمد عز، قطب صناعة الصلب السابق والشخصية البرلمانية البارزة في الحزب الوطني الديمقراطي، وزهير جرانة ومحمد المغربي ورشيد محمد رشيد، وزراء السياحة والإسكان والصناعة السابقون، على التوالي، وكذلك آل مبارك أنفسهم وأصهارهم.

بيد أن الإلغاء الكامل للمحسوبية يبدو أمراً مستبعداً أيضاً. فمثل هذه الخطوة تتطلّب تغيير قواعد اللعبة بطريقة ترسّخ وتفرض توزيع حقوق الملكية بالتساوي، وسيادة القانون والشفافية والتكافؤ في فرص الحصول على الأصول والمعلومات والائتمان والمكانة السوقية. وهو مالا يبدو قريب المنال في مصر.

بدلاً عن هذا وذلك، ثمّة دلائل على إجراء عملية إعادة تشكيل شبكات المحسوبية في مصر. وهذا يعني أنه من المرجّح أن تستمر العلاقات الوثيقة بين الدولة ورأس المال الكبير، لكن مع حدوث تغييرات كبيرة في اللاعبين، حيث يتم استبدال المحاسيب والمقربين القدامى بآخرين جدد، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات أم حتى أجهزة دولة. وسيتمكّن هؤلاء القادمون الجدد من استغلال علاقاتهم وصلاتهم السياسية لتأمين الوصول إلى الأصول والجهات الرقابية والاحتكارات والمعلومات الداخلية بصورة تنطوي على نوع من المحاباة، تماماً كما فعل أسلافهم. وقد ينتهي الأمر بالجيش، بما يمتلك من قوة سياسية جديدة، باستبدال بعض المقرّبين السابقين بآخرين جدد. ومن المحتمل أن يظهر المحاسيب الجدد أيضاً كأعضاء في البرلمان في الانتخابات المقبلة، عندما يبدأ النظام المدعوم من الجيش رحلة البحث عن وسطاء وحلفاء لشغل المناصب داخل المجلس التشريعي.

بيد أن أي عملية لإعادة تشكيل شبكات المحسوبية، حتى بأطراف فاعلة جديدة، لن تكون مهمة سهلة. إذ يسعى النظام الحالي جاهداً إلى استعادة الشرعية لسلطة الدولة، مايجعله حريصاً على تجنّب استنساخ كل مايشبه الزواج غير الشرعي بين السلطة والثروة. إضافة إلى ذلك، فإن الأزمة المالية والحاجة إلى زيادة الإيرادات في الوقت الذي تتقلّص فيه العائدات، ستجعلان من الصعب على نخب الدولة إيجاد مايكفي من الموارد لتوزيعها بين المقرّبين منهم.

على أنه في الوقت ذاته، لايعني التفكيك الجزئي لبعض شبكات المحسوبية من عهد مبارك أن سيادة القانون والشفافية ستحرزان تقدّماً. والواقع أن الرئيس المؤقّت المدعوم من الجيش في أعقاب إطاحة الرئيس مرسي، المستشار عدلي منصور، أقرّ حزمة من القوانين والأنظمة الملائمة للقطاع الخاص سمحت بعقد مصالحة مع المستثمرين خارج نطاق القضاء. ولعل القانون الأذْيَع صيتاً من بينها هو القانون 32/2014، الذي يحظّر على المحاكم الإدارية قبول دعاوى قضائية ضد العقود العامة، مالم تكن الدعاوى مرفوعةً من طرف مباشر في الصفقة (وهذا يعني إما الحكومة أو المستثمر). ولايقتصر الأمر على أن القانون الجديد يحمي العقود العامة، بما فيها تلك التي تتضمّن تخصيص الأراضي العامة أو خصخصة شركات القطاع العام، من الإجراءات القانونية، بل يستثني جميع القضايا المرفوعة قبل صدور هذا التشريع.

برّرت الحكومة هذه القوانين بضرورة استعادة ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين، والتي تُعَدّ خطوة أساسية إذا ما أُريدَ لهم أن يستأنفوا نشاطهم في مصر. ومع ذلك، اعتبرها النقاد ورموز المعارضة وسيلةً لإعادة إنتاج ممارسات وشبكات المحسوبية القديمة نفسها، على حساب سيادة القانون والشفافية والرقابة القانونية والمساءلة.

من غير المحتمل بالفعل أن يتم نزع ملكية أو اضطهاد أو محاكمة معظم ممثلي رأس المال الكبير الموروث من عهد مبارك. فقد اقتصر وقوع الضرر الأكبر فعليّاً على الدوائر الضيقة التي كانت ترتبط بصورة مباشرة بآل مبارك وبالحزب الوطني الديمقراطي. أما أصحاب الشركات وعائلات الأعمال الأخرى، فنجحوا في تجنّب الصعوبات بقدرٍ أقلّ من الضرر، ولاسيما في ضوء الحاجة الماسة إلى حثّهم على الاستثمار في اقتصاد يعاني من حالة ركود. وبالتالي قد يعني استبعادُ هؤلاء من أي شبكات للمحسوبية مستقبلاً، تركَهم لأنفسهم ليسبحوا أو ليغرقوا بمفردهم من دون انتظار مساعدة من الدولة، بدلاً من أن يعني مهاجمة الدولة لهم بصورة مباشرة. وتمتلك معظم هذه التكتّلات من رأس المال الكبير مايكفي من القوة لأن تبقى على قيد الحياة، بل وحتى أن تزدهر، من دون الدعم الحكومي المباشر، بعد أن تمتّعت لسنوات بفرصٍ اقتصادية مواتية مكّنتها من إحراز مكانات متميزة في الاقتصاد المصري.

 

أعباء جديدة على الرأسمالية الكبيرة

ثمة مصدر أخير للضغط على رأس المال الكبير، يتمثّل في سياسات إعادة الهيكلة المالية وإعادة التوزيع التي تقوم بها الحكومة الجديدة لتحسين الوضع المالي المتدهور للدولة، فضلاً عن دعوات السيسي إلى رموز رأس المال الكبير للقيام بواجبهم الوطني من خلال المساهمة في صناديق دعم الاقتصاد الوطني، كصندوق تحيا مصر وغيره.

منذ بداية أزمة مالية الدولة الطاحنة في العام 2011، ارتفع عجز الميزانية في مصر من حوالى 10 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 14 في المئة تقريباً في العامَين 2013- 2014 (من دون احتساب المعونات الخليجية). ووفقاً لوزير الاستثمار، فقد اقترب الدين العام من 94 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية السابقة. وفي موازاة ذلك، انخفض احتياطي النقد الأجنبي من 35 مليار دولار في كانون الثاني/يناير 2011، إلى أقل من 17 مليار دولار في أواخر العام 2014، على الرغم من التدفّقات النقدية الخليجية الضخمة منذ ديسمبر 2012.

ردّاً على ذلك، تحرّك النظام لخفض النفقات وزيادة الضرائب، وتم تخفيض دعم الطاقة بنحو 40-50 مليار جنيه مصري (5.5-7 مليارات دولار) خلال السنة المالية الحالية على نحو من المنتظر أن يؤثر كثيراً على الرأسمالية الكبيرة، خاصة أن الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل الإسمنت والأسمدة والحديد والصلب والسيراميك، من بين أكبر القطاعات المستفيدة من برنامج الدعم. وثمة أدلة قوية على أن العديد من الشركات الكبرى (بعضها متعدّدة الجنسيات وبعضها مصرية) التي استفادت كثيراً من الدعم الحكومي السخي في الماضي، قد حقّقت هوامش ربح مرتفعة بصورة غير عادية نتيجة لذلك.

عارض العديد من الشركات النشطة في قطاعاتٍ كثيفة الاستهلاك للطاقة، والتي بطبيعة الحال كثيفة رأس المال في الوقت ذاته، أي رفع للدعم على الرغم من الوضع المالي المتردّي للدولة. ووفقاً لبعض الروايات، فقد نسّقت الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مواقفها، ولم توافق على خفض الدعم الحكومي إلا بعد الحصول على موافقة الحكومة لاستيراد الفحم في المقابل، وهو بديل أرخص من الغاز الطبيعي والكهرباء المتوفّرَين محلياً.

كانت محاولات الحكومة لإعادة هيكلة الإيرادات مثيرةً للجدل أيضاً. فقد كانت الإيرادات الضريبية في مصر كنسبة مئوية من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في انخفاض منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. أما الإيرادات الإجمالية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، فانخفضت باستمرار من نحو 30 في المئة في الفترة 1990-1991، إلى أقل من 20 في المئة في أوائل العقد الماضي. وارتفعت مرة أخرى خلال العقد الماضي بفضل سلسلة من الإصلاحات الضريبية، لكنها لم تتعدَّ نسبة 25 في المئة، في حين كانت النفقات تُراوح عند حوالى 30-32 في المئة.  وكانت نتيجة ذلك اتّساع عجز الميزانية الذي جرى تمويله من خلال التوسّع غير المسبوق في الاقتراض المحلي منذ تسعينيات القرن الماضي. وبحلول العام 2013، بلغ الدين العام نسبة 87 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً.

يكمن أحد الأسباب الرئيسة لهذا الانخفاض الكبير في إيرادات الدولة في الانخفاض أو الثبات النسبي في العائدات غير الضريبية، وعلى الأخص رسوم عبور قناة السويس وصادرات النفط والغاز الطبيعي. وفي الوقت نفسه، فشلت الدولة في تطوير القدرات الإدارية والتشريعية اللازمة، وقبل كل شيء القدرات السياسية، لتحصيل الضرائب من الشركات المملوكة للقطاع الخاص. وكان هذا جلياً، في الحصة الضئيلة من إجمالي الإيرادات المتأتّية من الضرائب المفروضة على الأرباح الصناعية والتجارية والرأسمالية (بلغت في المتوسط 5 في المئة بين العامَين 2008 و2012). وينطبق الأمر نفسه على حصّة ضرائب الملكية، التي كانت أقل من 3 في المئة من إجمالي الإيرادات في الفترة الزمنية نفسها.14 وقد حدث القصور في فرض الضرائب على القطاع الخاص عموماً والشركات الكبرى وكبار الملّاك على وجه الخصوص، في وقت كان القطاع الخاص يزيد ناتجه الإجمالي. ووفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2009، كان القطاع الخاص في مصر ينتج 70-75 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي غير النفطي في البلاد بحلول العام 2005.

بعد وصول السيسي إلى السلطة مباشرة، أقرَّت الدولة تدابير عدة خاصة بالإيرادات، بما في ذلك ضرائب على الأرباح الرأسمالية وضريبة مؤقّتة لمدة ثلاث سنوات على الدخل الذي يتجاوز مليون جنيه مصري للأفراد والشركات. كما تعتزم الحكومة تفعيل الضرائب العقارية في المستقبل.

وليس من المتوقّع أن يتعاون رأس المال الكبير في الخطط المستقبلية لفرض الضرائب. ويبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كان قادة هذه الشركات قادرين على تنسيق مواقفهم وتوظيف ثقلهم الاقتصادي ونفوذهم السياسي لإفشال هذه الخطط.

من المحتمل أن يتذرّع مجتمع الرأسمالية الكبيرة بدوره في ضخّ الاستثمارات وخلق فرص العمل، وأن يدعو بالتالي إلى زيادة الضرائب على الممتلكات بدلاً من الدخل، والتي من المرجّح أن يقع عبؤها على القطاع العائلي أكثر من القطاع الإنتاجي، كما يُرجّح أن تستهدف الثروة التي جمعتها الطبقتان المتوسطة-العليا والعليا على مدى العقدين الماضيَين.

ويُضاف إلى العوامل أعلاه أن قدرة رأس المال على الحركة قد تجعل من الصعب أيضاً تحصيل ضرائب أعلى من رأس المال الكبير، وهو ما لايتوفر لدى معظم أفراد الطبقة المتوسطة-العليا والطبقة العليا، الذين لايستطيعون قبول فرض المزيد من ضرائب الملكية عليهم، ولايتمكّنون من تصفية أصولهم بسهولة ونقل رؤوس أموالهم إلى الخارج. وثمة مايشي بأن التصفية ونقل رؤوس الأموال إلى الخارج شكّلا الاستراتيجية التي اتّبعها بعض ممثلي الرأسمالية الكبيرة في أعقاب إطاحة مبارك، ما استدعى تحرّك البنك المركزي المصري بوضع عدد من القيود على تدفقات رأس المال بعد العام 2011، للحدّ من الضغط على تضاؤل الاحتياطيات الأجنبية في مصر. ومع ذلك، أُلغيَت تلك القيود اعتباراً من آذار/مارس 2013.

ومن المهم أن نلاحظ أن معارضة إعادة هيكلة الضرائب لم تشمل كل أطياف رأس المال الكبير في مصر. فعلى سبيل المثال، كان حسن هيكل، المدير التنفيذي لإحدى كبرى شركات الاستثمار المالي في مصر، "مجموعة هيرميس المالية" EFG Hermes، يؤيّد بصراحة زيادة الضرائب على الدخل والثروة وخفض الدعم منذ أوائل العام 2011.

ترافقت الزيادات الضريبة الأخيرة وخفض الدعم مع دعوات السيسي لكبار رجال وعائلات الأعمال، بأن تعبّر عن وطنيتها من خلال ضخّ الاستثمارات في البلاد لخلق فرص العمل والتبرّع بالأموال إلى الصناديق العديدة التي أنشأتها الحكومة للمساعدة في إنقاذ الاقتصاد.

ففي أعقاب تسلّم الجيش مقاليد الأمور، أُنشِئ صندوق لجمع التبرعات بهدف إنقاذ الاقتصاد المصري. وقد جمع الصندوق الذي أُطلِق عليه اسم 306306، في إشارة إلى انتفاضة 30 حزيران/يونيو 2013 ضد مرسي، أقل من مليار جنيه (140 مليون دولار) في غضون عام واحد. بعد وصول السيسي إلى السلطة في يونيو 2014، أُنشِئ صندوق آخر باسم "تحيا مصر". وعلى الرغم من تصريحات السيسي المتكرّرة بأنه يعتزم جمع 100 مليار جنيه، والضغوط التي مورِسَت على قادة الأعمال للتبرّع، فإنه وفقاً لمصادر صحافية، لم يتم جمع سوى 6.75 مليار جنيه بحلول أوائل آب/أغسطس 2014.

 

الخاتمة

في الفترة المضطربة التي أعقبت إطاحة مبارك، تغيّرت العلاقات بين الدولة المصرية ورأس المال الكبير بصورة مثيرة، ومن المتوقّع أن تشهد تلك العلاقات تغييرات إضافية في المراحل المقبلة مع رسوخ قدم النظام السياسي الجديد المدعوم من المؤسسة العسكرية.

في الوقت الراهن، لاتزال الجهات الفاعلة في المجتمع في وضع شديد الضعف، لابل يجري إضعافها أكثر بسبب القمع الذي تمارسه الدولة، بحيث لاتستطيع تحقيق إصلاحات جدّية في طريقة تنظيم الاقتصاد، بما يضمن تفكيك المحسوبية وإحلال محلّها قواعد تمتاز بالشفافية وحكم القانون والتوزيع المتساوي لحقوق الملكية الخاصة.

غير أن السلطة الجديدة المدعومة من الجيش قد اتّخذت خطوات عدة مهمة بالفعل لإعادة رسم علاقة الدولة برأس المال الكبير. فمن ناحية، أصبح على الرأسمالية الكبيرة أن تستعد للمساهمة بصورة أكبر في إيرادات الدولة، وأن تتكيف مع خفض ماكانت تحصل عليه من دعم وإعانات وإعفاءات ضريبية. وعلى الرغم من الدعم القوي المبكّر الذي حظيت به القيادة السياسية الجديدة من ممثلي الرأسمالية الكبيرة في مصر، فإن هذه القيادة تبدو مستقلّة إلى درجة كبيرة عن تأثيرات رأس المال الكبير، على الأقلّ في المدى القريب، ما يجعل من المستبعد أن تحابي سياسات الدولة التكتّلات الاقتصادية الكبيرة مثلما كانت عليه الحال في عهد مبارك.

ويتصدّر هنا عبد الفتاح السيسي المشهد، إذ يظل شخصية تحظى بشعبية واسعة، ماتجلّى في قدرته على اتّخاذ القرار الأخير بخفض دعم الطاقة، من دون التسبّب بالكثير من الاضطرابات، وهو مايشير إلى أنه قوي بما يكفي لاتخاذ خطوات قد لاتحظى بالكثير من القبول الشعبي. ولعل الأهم من ذلك أن القاعدة الاجتماعية التي يعتمد عليها متنوّعة ويمكنها الاستغناء عن رأس المال الكبير، على الأقلّ في الوقت الراهن.

في الوقت نفسه، حُرِمَت الرأسمالية الكبيرة إلى حدّ كبير من الإنفاق التحفيزي للدولة، وتولّى الجيش بسرعة القيام بدور موسّع في الاقتصاد، حيث تعتمد خطط التعافي في المدى القصير بصورة كبيرة على التمويل الأجنبي، وخاصة الخليجي، الذي من المخطط أن يتدفّق من خلال الجيش، وليس من خلال شبكات الأعمال التقليدية، مايزيد من درجة استقلالية النظام السياسي عن الرأسمالية الكبيرة في المدى المباشر.

ستظلّ الرأسمالية المصرية الكبيرة قوة اقتصادية فعّالة على الرغم من التحدّيات والتغيّرات التي تواجهها. فهي تسيطر على القطاعات الرئيسة في الاقتصاد، وهي كبيرة جداً بحيث لايمكن السماح لها بأن تفشل، مغبّة أثر هذا على هيكل الاقتصاد المصري ككل.

بيد أنه سيتعيّن على الرأسمالية الكبيرة أن تصبح أكثر اعتماداً على الذات، وبالتالي مستقلّة عن الدولة. وسيمثّل فصل الرأسمالية الكبيرة عن اعتمادها التاريخي وطويل الأمد على الدولة، خطوةً كبيرة إلى الأمام على نحو قد يسمح بظهورها كلاعب اجتماعي-سياسي مستقلّ في المستقبل.

يبدو رأس المال الكبير منقسماً بصورة طبيعية بشأن الوضع الذي يواجهه. ومع ذلك، ونظراً إلى حالة عدم الاستقرار المزمنة التي تعاني منها مصر منذ العام 2011، سيتعيّن على ممثلي رأس المال الكبير التوافق عاجلاً أم آجلاً على رؤية موحّدة إزاء الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الراهن. ومن شأن هذه الرؤية حال تكوّنها أن تجعلهم أكثر تقبّلاً لمطالب الحكومة بالمساعدة على دفع ثمن إعادة الهيكلة المالية والاقتصادية، إذا ما أرادوا للبلاد تجنّب المزيد من الاضطراب أو حتى الانفجار الاجتماعي.